كيف كان يحصل الناس على الدواء قبل ظهور الصيدلية؟ تعرّف على تاريخ الدواء وعلم الفارماكولوجي
من كثرة اعتياد الإنسان رؤية مفردات الأشياء من حوله، يظن أنها موجودة على صورتها تلك منذ الأزل. ومن ضمن هذه الأشياء: الصيدلية. ولكننا ندرك جيدًا أن الصيدلية – على شكلها الحالي – حديثة النشأة، ربما أقل من 100 عام. فكيف كانت البداية؟
تُرى كيف كان يتداوى الناس قبل اختراع الصيدلية؟ كيف ومن أين كان يحصل الناس على الدواء عندما يمرضون؟ كيف تطور علم الصيدلة منذ آلاف السنين حتى وصل إلى شكله الحالي؟
هذا المقال يعتبر وجبة تاريخية خفيفة، نعرفك خلالها على الطريقة التي كان يحصل بها أجدادك على الدواء عندما كانوا يمرضون.
متى بدأ علم الصيدلة؟
لا يمكن الجزم بشكل قاطع متى بدأ علم التداوي. فأي نشاط مارسه الإنسان عبر التاريخ كان يبدأ بظهور الحاجة. والحاجة هنا كانت مرضه، واحتياجه إلى التداوي. يُقال أن الإنسان الأول بدأ علم التداوي استنباطًا من سلوك الحيوانات، التي كانت تمرض فتؤدي بعض الأنشطة المميزة، مثل الامتناع عن تناول الطعام، وتناول أعشاب معينة من الطبيعة. فلما لاحظ الإنسان أنها تبرأ بعد تناولها لتلك الأعشاب أو قيامها بتلك الممارسات، بدأ بفعل المثل.
لا يمكن الجزم بالطبع بهذه القصة كبداية لعلم الصيدلة والتداوي، ولكنها محاولة لاستنباط كيف كانت البداية.
يقول آخرون – استنتاجًا كذلك – أن الأمر كله كان خاضعًا للتجربة كما كان الحال بشأن الغذاء ووصفات الطعام. فكما كان يجرب الإنسان بعض الأطعمة خلطًا وطهيًا، كان كذلك يجرب تأثير بعض الأعشاب عليه عندما كان يجربها، فنمت خبرته الطبية بهذه الطريقة.
ولكن من ناحية التأريخ الطبي، فقد ظهر علم التداوي في جميع حضارات العالم القديم (العرب، مصر، الصين، الهند، الرومان، البطالمة، والإغريق). نعم، اختلفت المدارس والطرق حسب الذخيرة الطبية من الأعشاب والمركبات الطبية، ولكن اتفقت جميعها على الكثير من مبادئ التداوي بالأعشاب والمركبات الطبيعية.
ولكل علم أعلام، وكان من أعلام علم الصيدلة – والذي يعتبر المؤسس الرسمي الأول والأب الروحي لها – هو ابن البيطار.
كيف كان يحصل الناس على الدواء قبل ظهور الصيدلية؟
ابن البيطار.. العالم الذي قتله علمه
اسمه عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ اَلْمَالَقِيُّ ولقبه هو ابن البيطار (البيطار هو البيطري الذي يعالج الحيوانات). وكانت هذه وظيفة والده، ولذلك اُشتهر بهذا الاسم. ولد عام 593 هـ / 1197م وتوفي عام 646 هـ / 1248م. وهو يعتبر أشهر صيدلي عرفه العالم. ليس العالم العربي أو الإسلامي فحسب، وإنما العالم أجمع.
ولابن البيطار كتاب أيقوني عرفه العالم أجمع، اسمه الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، صنف فيه أكثر من 1400 نوعًا من الأعشاب والأدوية والعقاقير الطبية. هذا الكتاب يعتبر ثورة حقيقية في عالم الصيدلة، ولذلك يعتبر ابن البيطار هو مؤسس علم الصيدلة في العالم بشكل علمي وأكاديمي يمكن الرجوع إليه.
اطلع ابن البيطار على أكثر من 170 كتاب في الطب والتداوي (أشار إليهم بالاسم في كتابه)، وسافر بلدان العالم الإسلامي كلها بحثًا ودراسة للأعشاب والأدوية، حتى استقر بدمشق.
توفيّ ابن البيطار أثناء إحدى تجاربه عندما تسرب إليه السم من نبتة سامة حاول استخلاص دواء منها. وكان عمره آنذاك 51 عامًا تقريبًا.
العالم قبيل ظهور الصيدلية.. كيف كان؟ دكان العطار
كان الطبيب في العالم القديم هو الطبيب والصيدلي في نفس الوقت. فكان يشخص المرض، ويعطي المريض الدواء من مخزون الأدوية والأعشاب الخاص الذي يمتلكه. وهكذا اُشتهر الطب في العصر القديم.
ولكن مع كثرة الأمراض وتعدد الأدوية لم يعد لدى الطبيب مساحة من الوقت تسمح له بجلب وإعداد وضبط عملية إنتاج الدواء. وبالأخص أنه كانت توجد العديد من الوصفات التي تتطلب مزج بعض الأجزاء ببعضها البعض، بنسب محددة بدقة حتى تصل إلى الدواء الذي ينفع ويعالج المريض بدون أن يضره. وبطبيعة الحال لم يكن لدى الطبيب جميع هذه الأجزاء.
هنا ظهر دكان العطار (متجر العطارة)
وليس المقصود هنا بدكان العطار ابتياع المواد الغذائية التي نشتريها عادة اليوم من محل العطارة، ولكن المقصود به تحديدًا هو المتجر الذي يبيع الأعشاب الطبية المستخدمة في التداوي تحديدًا. كانت مهارة العطار الحاذق هي التي تتضح من قدرته على مزج الخامات العشبية بدقة بالغة حتى يتمم الوصفة الطبية التي يصفها الطبيب ويحتاجها المريض.
وكان كثيرًا ما يقوم بدور الطبيب، عندما يأتيه من يشتكي من أحد الأمراض، فيصنع له وصفة خاصة أو يقدم له إحدى الأعشاب الجاهزة هي التي تعالجه مما يعانيه. وكان يفد إليه كذلك الأطباء حتى يأخذوا منه احتياجاتهم من الأعشاب الطبية والوصفات التي يستخدمونها في مداواة المرضى، وبهذا كانوا يوفرون وقت الطبيب في البحث عن وجمع الأعشاب التي يحتاجها في التداوي.
وحتى يومنا هذا يحظى العطار بنفس الشهرة الكلاسيكية. ويفضل آباؤنا وأجدادنا – حفظهم الله – في أغلب الأحيان زيارة العطار عن زيارة الطبيب، ظنًا منهم أن هذا أكثر أمانًا من الاعتماد على المواد المصنعة كيميائيًا في الاستشفاء.
كيف كان يحصل الناس على الدواء قبل ظهور الصيدلية؟
براعة العرب في شفاء الكثير من الأمراض
كانت الصيدلية العربية بارزة للغاية في التاريخ القديم، وبالأخص بعد ظهور الإسلام. لماذا؟ كان الطب والعلاج يرتبط عند العرب قبل ظهور الإسلام بالكهانة. فكان كهنة الأصنام يُقصرون علوم الاستشفاء عليهم حتى يحظوا وحدهم بالعطايا من المرضى، وحتى يحافظوا على استمرارية تدفق المريدين (الزبائن) إليهم وحدهم دون غيرهم من الناس.
ولكن مع مجيء الإسلام انتهت الكهانة، وشجع الإسلام على اكتساب العلم الحقيقي في صورته التحليلية بمختلف الفروع، وبالطبع في فرعي الطب والصيدلة. فاستخدموا السواك لعلاج الأسنان، والكمأة لعلاج أمراض العين، والحبة السوداء لأمراض الجهاز الهضمي. هذا بالإضافة إلى تزكية النبي – صلى الله عليه وسلم – لبعض الأعشاب والمواد خاصة، مثل العسل والحبة السوداء والتلبينة والتمر والشعير وغيرها.
كما اجتهدوا علميًا ونجحوا في اكتشاف عشرات المواد التي تعالج العديد من الأمراض، مثل السنامكي في علاج الإمساك، والأرجوت والخشخاش كمسكنات للآلام. كما برع الأطباء العرب في مواد التخدير لإجراء العمليات الجراحية للجروح التي كانت تصيب الجنود في المعارك، وكذا للجراحات الداخلية وتخييط الجروح.
ولم يبدأ علم الصيدلة بابن البيطار وحده ولكنه كان المميز بكتابه الفريد. فقد سبقه جابر بن حيان، وابن الرومية (معلم ابن البيطار). واهتم جميع الحكام المسلمون بعلم الطب والتداوي كثيرًا، وضرورة أن تتوفر شروط محددة فيمن يمتهن هذه المهنة، وأن يجتاز اختبارات كفاءة يجريها له من هم أقدم وأكثر خبرة منه، وعُرِفُوا بالثقل والثقة في هذا الفن.
الصيدلة الآن.. ما بين الرسالة والصناعة
حفل القرن العشرين بمئات القوانين التي نظمت العمل الصيدلاني. لن نتحدث عنها في هذا المقال، ولكن سنشير كيف كانت الصيدلة أولاً وكيف أصبحت الآن.
كان الصيدلي – في مطلع القرن العشرين – هو المسئول بنفسه عن تصنيع الدواء. بل إن اسم أجزاخانة جاء من شقين رئيسيين في هذه الصنعة: أجزاء – خانة. أجزاء المقصود بها أجزاء الدواء من المواد التي يعرفها الصيدلي جيدًا. والخانة المقصود بها (دكان) أو (محل) ممارسة النشاط.
فالصيدلي (أو الأجزجي) هو الشخص المسئول عن تجميع أجزاء المواد معًا بدقة بالغة وبنسب محسوبة، حتى يصنع الدواء المطلوب منه، لعلاج المرض الذي شخصه الطبيب. كان الطبيب في تلك الفترة يصف الداء فقط، وفي أحيان قليلة يعطي توصيات بجرعات الدواء أو تعليمات الاستشفاء. أما تحديد الدواء وتجهيزه فقد كان مهمة الصيدلي من البداية للنهاية.
لذلك كان من المشاهد العادية في الصيدلية (الأخزاخانة) أن تجد زحامًا لبعض المرضى أو الزبائن في انتظار تحضير الدواء الخاص بهم. وكانت الأخزاخانة المتميزة هي تلك التي تمتلك أهم عنصرين:
- المهارة: لدى الصيادلة البارعون السريعون في تجميع أجزاء الدواء (تركيب الدواء)
- التنوع: في الخامات الكثيرة والمتنوعة التي تتيح لهم صنع أي دواء يُطلب منهم
ولكن هذه المنظومة واجهتها الزيادة السكانية وارتفاع الطلب على الدواء، بالشكل الذي حدا بتقليل مساحة عمل الصيدلي رويدًا وتحميل مهمة تصنيع الدواء إلى خطوط الإنتاج العملاقة فيما يسمى الآن شركات الأدوية.
صنعت شركات الأدوية طفرة في عالم الدواء بحجم إنتاجها الضخم ودقتها الشديدة المبنية على الميكنة المتطورة، والتي جعلت الدواء جاهزًا في متناول الصيدلي ليقوم بصرفه في خطوة سريعة جدًا للمريض (تناوله من على الرف وإعطاؤه للمريض).
ومع تعدد وتنوع شركات الدواء التي تصنع نفس الدواء، ظهرت المنافسة التي حدت بالشركات لتقوم بترويج أصنافها من الدواء عند الأطباء ليختاروا أصنافهم تحديدًا دون أصناف الشركات المنافسة، فأصبحت الصناعة مبنية على التنافسية المرتفعة بين الشركات وحسن الترويج لمنتجاتها، بعد أن كانت المهمة بالكامل ملقاة على عاتق الصيدلي وحده.
الآن تقريبًا اختفى دور الصيدلي الأكاديمي الذي كان يقوم بتجميع أجزاء المواد لصناعة التركيبة الدوائية. وتولت شركات الدواء صناعة جميع الأدوية والمستحضرات الطبية والمكملات الغذائية.
ولكن بقيَ دور العطار بارزًا لهواة العودة إلى الطبيعية، الذين يرغبون في الحصول على أصل المادة الخام من الدواء للاستشفاء. ولذلك حرصنا في أركان على أن تكون جميع منتجاتنا طبيعية 100% لأولئك الذين يرغبون في التشافي بدون الخوف من الأعراض الجانبية للدواء.
كيف كان يحصل الناس على الدواء قبل ظهور الصيدلية؟
الخلاصة:
تطورت صناعة الدواء عبر التاريخ ومرت بمراحل كثيرة. فقد كان الدواء مهمة ملقاة على عاتق الطبيب المداوي أن يعطيها هو للمريض أو على الأقل يصفها له ضمن وصفة الاستشفاء خاصته. ولكن مع نمو وتنوع الأعشاب التي يتم التداوي بها، ظهر علم الصيدلة الذي يعني بالمواد التي تشفي الأمراض. وتطور العلم رويدًا رويدًا حتى وصل إلى شكله الحالي الممثل في الصيدلية.
كيف كان يحصل الناس على الدواء قبل ظهور الصيدلية؟